Magazine Minerva Philosophie, Tlemcen Αθηνά

فينومينولوجية المعيش: قراءة في فنتازيا الوعدة

 

 فينومينولوجيا المعيش

قراءة في فنتازيا الوعدة

*د.مونيس بخضرة: جامعة تلمسان- الجزائر

 ربما يتساءل الكثيرون عن أهمية تناول مثل هكذا موضوع ضمن السياق الفينومينولوجي، وعن جدوى مقاصده المعرفية. تساؤلات تبقى مشروعة، نظرا لطبيعة موضوع الوعدّةAluadha  وبحكم أنه موضوع يبدى للجميع موضوعا متماهيا مع البساطة يصعب رفعه إلى مقام الملاحظة الفلسفيةobservation philosophique . إلا أننا في هذه الحالات، لا يمكن أبدا أن نتجاهل مكاسب التفكير الفلسفي في تاريخه، الذي لطالما أظهر مقدرة لا مثيل لها مقارنة بأنماط التفكير الأخرى، حينما تمكّن في الكثير من المناسبات من تفجير مواضيع كانت تظهر مألوفة وعادية للجميع، على غرار ما فعل طاليسThales  بعنصر الماءélément Eau  ، عندما استطاع أن يقدمه للعالم على أنه أمر غير عادي، عنصر خارق و خلاق به ظهر لنا كفكر للطبيعة كما قال عنه نيتشه. و مثل هذا العمل، لا يقوم به إلا الفلاسفة. و على هذا الأساس، ظلّ الفيلسوف منذ القدم كائنا متميّزا  Atre distinct و متواضع في معاملته للظواهر. كائن يفرط في احترامه  للأشياء respect pour les choses التي يصادفها. فهو يحترمها بما أنه يحاول أن يدرك طبائعها الحقيقية. فهو يراها بعين مختلفة، عين متعددة أنماط ، بين الريبة و الوثوق، اللتان تهيمن عليهما روح العقلانية esprit de la rationalité. الأمر الذي يجعل من ما يدركه على أنه شيء غامض و مجهول و غير مفهوم ولو كنا قد ألفناه منذ الصغر[2].

هي جملة صفات تجعل من الفيلسوف شخص حذر في مواجهته للأشياء Philosophe qui a averti la direction des choses. ومثل هذا التحليل ليس هو بالجديد، وإنما سبق للكثيرين من الفلاسفة كشفه على غرار ما فعل هيجل Hegel في نصوصه المتعددة plusieurs textes، عندما أكّد أكثر من مرة أن الفيلسوف يملك مهارة كبيرة في استجابته لمشاكل عصره Pour les problèmes de son temps، في هذا الشأن يقول" الفلسفة معرفة صريح للتطور، هي ذاتها هذا التفكير المتطور، و كلما تطور هذا الفكر ازداد تطورا من الخارج إلى الداخل، و هكذا تبني الفلسفة بداخلها ما هو متطور"([3]). فهو كائن يحسن الإنصات لنداء الوجود كما قال هيدغرDe faire appel à exister en tant que Heidegger dit([4])،  وهو كالشاعر الملهم في تجاوبه مع العالمPoète d'inspiration dans sa réponse au monde، وبالتالي مهما قيل عن الفيلسوف، يبقى ذلك الفنان artiste الذي يكوّن مواضيعه من كومة أشياء بسيطة، تربطه بها علاقات غير وهمية.

 وفي ظلّ هذه المعطيات، تطرح عدة تساؤلات تخص راهن الفلسفة في مجتمعنا المعاصرPertinence de la philosophie dans notre société contemporaine، وعن قدرة مفكريه في إيجاد مساحة خاصة بهم فيه، و عن مدى دورهم في صناعة الوعي الاجتماعي Sensibilisation de l'industrie sociale ومدى تأثيرهم فيه، والأسباب التي أعاقتهم عن  تحقيق هذا الإنشاد؟([5]).

إذا، التفكير الفلسفي المنظّم و الهادف، يبقي من اختصاص الفيلسوف دون غيره من الناس. تفكير يدفع صاحبه إلى أن يبقى مجاورا على الدوام للموجودات التي تملأ فضاءه بما أنها تلهمهinspiré ، مما يؤكد أن التفكير الفلسفي الجاد لا يكون ممكنا إلا في ظل وجود علاقة حميمية وخاصة تربط الفيلسوف بالموضوع بغض النظر عن طبيعته. علاقة تطرح هنا كشرطية لازمة لأي عمل فلسفي ممكنLe travail philosophique possible ، وبالتالي كل حركة قصدية mouvement intentionnel تحدث خارج هذا المنحى تبقى مجرد نزوة عقلية دون أن تحقق مبتغاها الخاص. ومثل هذا الطرح، يدفعنا إلى مناقشة إشكالية علاقة الذات بالموضوع، وبتعبير آخر، هو كيف نستطيع أن نفلسف الأشياء تفلسفا صحيحا وهادفا؟.

في هذا المجال، نعتقد أن العقم الفلسفي L'infertilité philosophique الحاصل في مجتمعنا اليوم، يعود بالأساس إلى غياب هذه شرطية وانعدامها، وإلى غموض هذه العلاقة، مما جعل انفتاحنا الفلسفي على الموضوع يبقى ضمن حدود الذات دون أن يتمكن من شمول الموضوع، الأمر الذي جعلنا نبقى أسرين للذاكرة التاريخية Mémoire historique وأسئلة الهوية Les questions d'identité  تحت قوقعة الذات. تفكير ظلّ مجبرا على فهم الذات فحسب بصيغة: تفكير يبحث عن ذاته، نكتفي فقط بإعادة تحوير منتجات التاريخ Historique Produits في مختلف المجالات، مما يعكس إخفاقنا الكبير على الخروج إلى العالم الحقيقي الذي يكون موضعا للتفكير الفلسفي. فما نعتقده تحت هيمنت هذا النوع من التفكير أننا نعيش التجاورvivez juxtaposition، يبقى مجرد لغو، بما أننا نكتفي بتعاطي صور الأشياء لا الأشياء ذاتها بلغة أرسطوAristote .

إن استمرار هذه النمطية في مجرى التفكير العام، يحجب عنا الموجود وخصائصه نتيجة عجز وعينا الفلسفي عن إدراكه والغوص فيه. فلا نزال نعيش وهم العالم بثراءه ومكوناته. الأمر يجعل من ما ننتجه ضمن التفكير الفلسفي يبقى يحمل هواجس الذات وحمولات التاريخ الذي يؤكد فرضية تأزمه وتعطله.

الفلسفة النظرية و معضلة التطبيق:

تحت ضغط التساؤلات الكثيرة عن أهمية الفلسفة importance de la philosophie كمعرفة في حياتنا الاجتماعية Voir nos vies sociales، نظرا لعجزها عن الخروج إلى الفضاء العمومي espace public، وإيجاد حيزا خاصا بها ضمنه مقارنة بميادين العلوم الأخرى، واكتفاء المشتغلين بها بالتداول النظري الجاف دون إخراجها إلى مستوياتها الظاهراتية الحيوية، في عصر بات يؤمن أكثر من أي وقت مضى بالعلوم التطبيقية sciences appliquées وبنتائجها الملموسة. فالفرد المعاصر لم يعد يكتفي بالقول دون الفعل، بقدر ما أصبح يهتم بالفعل أكثر من القول والحكم. اهتمام يحتّم ضرورة التخلي عن الربط التاريخي الشائع بين الفلسفة كمعرفة والحكمة sagesse كقيمة خاصة بالمعرفة، في الوقت الذي فرضت فيه الحاجة إلى حتمية تغيير الفلسفة من إستراتجيتها الكلاسيكية المتمثلة في التحليل والتفسير والجدل إلى إستراتيجية البناء الحي والمساهمة في تكوين العالم الإنساني le monde humain لتكون ضمن المعارف النفعية والمشاركة الاجتماعية participation sociale.

إن جملة المطالب الراهنة غير مألوفة للفلسفة، أسقطتها في وضع حرج خاصة في المجتمعات التي تفتقر للتجارب الفلسفية expériences philosophiques الناضجة على غرار المجتمعات العربية المعاصرة ([6])، التي ظلّ فيها أفرادها منذ عصر الانحطاط ،يطالبون بالدور الفاعل للتفكير الفلسفي لحلحة الانشغالات الحضارية التي ظلت تفرزها مجتمعاتهم على الدوام منذ زمن طويل. إن أثر هذا الفراغ تفرّخت عنه عدة أحكام اجتماعية سلبية Négatifs dispositions sociales كانت قاصية في حق الفلسفة، وأصبحت نموذجا للعطّاّلة والكسل العقلي paresse mentale و الهذيان الفكري الذي لا ينفع في شيء، الأمر الذي جعل من المشتغلين بالفكر الفلسفي يشتغلون تحت ضغط هذا الفراغ بفعل ازدواجي.

الفعل الأول: يتمثّل في إعادة الثقة confiance فلسفيا للموضوع المراد التفكير فيه، وتبيّان أهميته المعرفية والتأكيد بكل الطرق على أنه استثناء فلسفي، يختلف كل الاختلاف عن الذي تم تناوله، وهو في الحقيقة، فعل سيكولوجي أكثر منه معرفي، بما أنه يركز على تحقيق الانسجام بين المستهلك والحدث الفلسفي Evénement philosophique، الشيء الذي جعل من الكثيرين منهم يسهب في إثراء هذا الموضوع لملئ هذا الفراغ.

الفعل الثاني: وهو الفعل المتعلق بإظهار قدرات الموضوع وحدوده المعرفية، والأفاق التي يحملها اتجاه الإشكالية التي يعالجها. فعل يعتمد على إستراتيجية تثوير الأفكار المتداولة لصالح القصد الإبستيمي للموضوع موظفا في ذلك شتى الأدوات المنهجية والتقنية والمفاهيم المناسبة في مسعاه العلمي. إذ يعد الخطوة الأهم مقارنة بالأولى بما أنه يولي أهمية قصوى للإجابة عن الانشغالات التي يطرحها الموضوع.

إن عجز أفكارنا الفلسفية عن ملامسة التجربة expérience، تبقى التحدي الأعظم لتطور وعينا الفلسفي ورهانه الحقيقي، وفي الكثير من الأحيان، نجد أن أفكارنا قد أنستنا عالمنا المعيش monde vivant، وهي في الغالب أفكار تفتقر لما هو ملموس الذي يخضع لحدود المكان والزمان. عجز حصل بفعل عدم انفتاح فكرنا الفلسفي على العالم الطبيعي le monde   naturelوالاجتماعي بشكل منهجي، سواء تعلق الأمر بعلوم التراث des sciences du patrimoineأو بالفكر المعاصر pensée contemporaine. إذا غياب الفكر التجريبي L'absence de pensée empirique سمح بتوالد الفكر الميتافيزيقيpensée métaphysique  وانتشاره في أوساطنا الاجتماعية، جعل من الصعب احتوائه أو حصره، وهو المشهد نفسه الذي عاشه العقل الغربي في تاريخه إذا ما استثنينا محاولات أرسطو tentatives d'Aristote وبحوثه الطبيعية وفلسفات ما قبل سقراط Pré-Socrates التي كانت واضعة أسس فلسفة الطبيعة philosophie de la natureوفتحها لملفات الوجود وبحثها في عناصرها اللامتناهية كا: الماء والنار والذرةL'eau, le feu et l'atome ...إلى غاية مجيء العصر الحديث مع روجير بيكون Roger Baconوحفيده فرنسيس([7])Francis اللذان تمكنا و بكل شجاعة من جعل التجربة موضوعا خصبا للدراسات الفلسفية، وبهذه المحاولات الجبارة، أصبحت الفلسفة كنشاط عقلي خالص تنفذ إلى صميم التجربة وتسكنها، وحال هذا النفوذ لم يستقر عند هذا المستوى، وإنما أصبح الفكر الفلسفي منذ ذلك الحين يلتف على الطبيعة وظواهرها، كما يلتف النور حول الظلام، لم يكتف فيه فحسب بالتجاور مع الموضوع بقدر ما أصبح أكثر تداخلا وجدلا معه مع جون لوك John Locke ودافيد هيومDavid Hume حينما توصّل إلى فكرة ميتافيزيقا العالم الطبيعي Métaphysique des sciences naturelles، أي أن العناصر الطبيعية Les éléments naturelsتحمل بداخلها دلالات ميتافيزيقية connotations métaphysiquesأو ما يعرف في تاريخ الفلسفة بالنزعة الشكّيةscepticisme tendance عند دافيد هيومDavid Hume([8]).

إن الأهم ما في هذا الجدل، هو تلاقي الفكر الخالص مع التجربة الإمبيرية، وانصهار جنسين متعارضين في دائرة واحدة، على إثره أصبحت المادة تحمل علامات الفكر Les signes de la pensée، وفي المقابل صار الفكر قادرا على إعادة بناء العالم الطبيعيReconstruction du monde naturel بما يتوافق مع تصوراته الذاتية. بهذا التآلف صارت الفلسفة تشارك العلوم الأخرى مواضيعها، ولم تعد غريبة عن الواقع الصلب. وأصبحت أكثر فاعلية وديناميكية مقارنة بما كانت عليه في ماضيها. فهذا العمل يعتبر في حد ذاته صورة من صور التجديد الفلسفيrenouvellement philosophique الذي تغيرت لغته عن لغته الكلاسيكية الغامضة، به أصبحت الفلسفة تلتفت لمناطق كانت مجهولة ومنسية عن المتابعة العلمية. فإذا كانت الفلسفة المثاليةidéal philosophie  قد تناولت الموضوع من منظور مزدوج، منظور فكري خالص والآخر مادي خالص matériau solide، وكأنما الأمر يتعلق هنا بعالمين مختلفين لا يلتقيان أبدا.

حصل هذا رغم التطمينات التي قدمها هيجل Hegel في هذا الشأن، على أن هناك علاقة جدلية تربطهما، والثاني هو انعكاس للأول( الفكر الانعكاسيréflexive pensé)([9]). ولكن رغم جدية هذا الطرح، إلا أن هيجل Hegl لا يخف تأطير الأول للثاني( الفكر للمادة) وصدور الثاني عن الأول على الطريقة الأفلاطونيةmanière platonicienne ، بخلاف النزعة الأمبيرية التي اعتمدت على منطلق واحد وهو المنطلق الإمبيري في بناء الفهم، على أن الفكر ينتج انطلاقا من التجربة. وحسب ما نعتقد، هذا الذي جاءت من أجله الفينومينولوجيا الهوسرلية  Husserl phénoménologique  لعلاجه، عندما نجحت إلى حد بعيد ردم الهوة الحاصلة بين الذات والموضوع، التي كانت بذاتها مشكلة عويصة ظلّت مرتبطة بالفلسفة منذ ألاف السنين، والتي على إثرها ظلّ الفكر يتخبط على أنياب الثنائية التي لم تساعده عن التجدد والتطور، وبهذه الخاصية ظهرت أهمية الفينومينولوجية كمنهجla phénoménologie comme une méthode  أكثر من كونها فلسفة قائمة بذاتها. الفينومينولوجية جاءت لتؤكد أن ما كنا نعتبره عالم عقلي  monde mentalيقابله عالم مادي monde matérielهو ضرب من الوهم، وأن الفلسفات التي تكوّنت وفق هذا الإيمان، في الحقيقة كانت بعيدة عن الصواب. كانت ضحية تجذّر هذه الثنائية في تصوراتها وخطاباتها، وعليه كان من الصعب المسك بأصل الشيء بفكر متشظ، و من هنا جاءت الفينومينولوجيا لتباغت الموضوع- فلسفة مباغتةsurprise de la philosophie - فهي عندما تتمكّن من اصطياد الموضوع تعلن ثراءها وفق مفهوم القصد notion d'intention، لكأن الفينومينولوجيا في بادئ أمرها تكاد تلامس حافة الريبة باستثارتها للإشكال([10])، بخلاف باقي الفلسفات التي تعتبر تخميناتها كحقائق، وعليه الفينومينولوجيا بهذا الأسلوب تعتبر ثورة على الفكر الفلسفي، ولنقل أن الفكر لم يعد مطلقا كما كان شائعا في عصر العاطفة.

الفيونيمونولوجية لم تظهر في الساحة الفلسفية المعاصرة إلا بوصفها فلسفة في الخبرة، تهدف إلى صياغة خبراتنا الإدراكية والتخيلية والشعورية. إذ الظواهر بصفة عامة هي جملة خبرات ماثلة للوعي، وهي الصورة نفسها حادثة في عالم الفن والفانتازيا والاستطيقا، بما أنها نمط من الخبرات ذات صفة فنية وجمالية، تتأكد في خبرة الفنان وفي المتذوق والناقد.

قصد هوسرل من الخبرة ب(هبة الشيء ذاته)، بمعنى أن الخبرة في التناول الفينومينولوجي هي قصديات معنى منوطون بكشفها، وهي كلها تجارب تقيم داخل الظاهر المحض وفي المحسوس وفي أضواء التبصر والرؤية. وهنا تطرح أهمية حضور الموقف الفينومينولوجي من الظاهرة والحدث الفني على غرار حدث فانتازيا الوعدة في الريف الجزائري، على أساس معايير ثابة وأولية قبلية، بما أن الوعدة تمتلك قدرة جمع الطبيعة مع العمل الفني البشري وهو بعد إضافي خاص مكمل للجمالية وللفن، وتشكل وحدة شاملة بهذه الوثبة المتميزة، وخاصة أن هوسرل غالبا ما اعتبر أنه لا يوجد جمال بدون حكبة إنسانية للأحاسيس.

الخيال يلعب دورا مهما في العمل الفني عند هوسرل، وبه صارت الفينومينولوجيا تقوم على ماهية الخيال في العمل الفني، نظرا لتشبع أي حدث كان بالخيال، وبهذا الاقتران يصعب تناول الحدث من غير حضور الخيال من مكوناته، وهذا الذي جعل من المعيشات ترضخ تحت الخيال والتي سماها هوسرل بالفانتازيا الإجرائية كالوعدة أو في المسرح أو الغناء، فالخيال يكمل الفانتازيا وتمظهرها ويجعل من أجزائها أكثر تكاملا وانسجاما.

فالعمل على التفكير في بناء جسور تربط الفكر بالمادة ليس مستحيلا، وبإمكان أن يبحث التفكير الفلسفي في أي موضوع كان من دون استثناء حتى ولو كان يظهر لنا بسيطا ومألوفا، و من هنا تتولّد الحاجة إلى ضرورة تطوير الفكر الفلسفي للنهوض بمجتمعاتنا.

و من أمثلة هذه المواضيع، سنتّخذ إحدى الظواهر الاجتماعية Les phénomènes sociauxأكثر انتشارا في المجتمعات المغاربيةsociétés maghrébines عموما وفي المجتمع الجزائري La société algérienneعلى وجه الخصوص، ألا وهي ظاهرة الوعدّة الشعبية،Aluadha populaire  التي سنحاول حرثها بأدوات فلسفية محضة حتى نظهر مكنوناتها الباطنية.

الوعدّة والفنتازياAluadha et fantaisie([11]):

الوعدّة الشعبية أو ما يسميها أهل وسط الجزائر ب:"الطعم" نسبة إلى الطعامnourriture . هي وجه من أوجه الفنتازيا الجزائريةAlgérie fantaisie  المرتبطة بفترة محددة، التي غالبا ما تكون في فصلي الربيع والخريفLe printemps et l'automne . ففي فصل الربيع، يسعى الناس فيها إلى مشاركة تفتح الطبيعة nature ouverte  وهي خارجة للتو من ظلمات الشتاء  l'obscurité de l'hiver الطويلة، يتقاسمونها جمال مروجها وانسياب جداولها، تحت شعور انبعاث الحياة résurgence de la vieوانتشار الحبrépandre l'amour ، الذي يتجلى في حملات تزاوج الطيور والولادة وتلاقح النبتات وترنح النحل والفراشات على أزهارها. فصل تحمل فيه بطون الإناث الأجنة العمياء، والأتربة تعصر فوقها ماءها الذي تجمع في جوفها خلال فصل الشتاء. فعبر الوعدّة يستجيب الناس لانبساط الطبيعة وقد انتصر فيها نور الربيع على الظلام الشتاء. فيشرعون في الرقص والغناء واللعب والتنافس Danser et chanter et jouer la concurrence وإلقاء المواعظ  التي تخدم الطبيعة، فهو بالنسبة للطبيعة كطفل يلعب في صدر أمه وهي تبادله الحب والحنان. إنها علاقة أنطولوجية relation ontologiqueعميقة تقيمها الوعدّة بين الإنسان والطبيعة، فهي تكاد أن تعلن أن التجمع البشري Assemblée des ressources humainesليس هو إلا ظاهرة مثل باقي ظواهرها. أما في الخريف، فيكون فيه الروح بنفس مختلف عن الربيع، فهو فصل جني الثمار والالتفاف حول مواقد النار هربا من الصقيع، وخروج الناس للاحتفال بالوعدّة في هذا الفصل لكي يعطوا رسائل الاستمرار في الوجود وأنهم مستعدون للمخاطر التي سيواجهونها في الأيام الحالكة المقبلة، وهو عمل أشبه بالتحضير السيكولوجي تقوم به الوعدّة اتجاه أفرادها. أبطالها عدد كبير من الأفراد من الجنسين ومن مختلف الأعمار يفضلون المرح واللعب والمغامرةFun, le jeu et l'aventure. تجري أحداثها في وسط الحقول بعيدا عن المدن والتجمعات العمرانية، تستحضر فيها جميع ألوان الفرجة والسمر والشرب والأكل إلى صباح اليوم الثاني، وهم بذلك يجمعون بين صخب النهار وضجيجه وهدوء الليل وسكينته، يستحضرون فيها مآثرهم وبطولاتهمhéroïsme والأيام الخوالي والأمجاد الماضية في قصصهم وحكاياتهم وأمثالهم. وأنا بدوري استمتعت بها كثيرا بهذه الجزئيات في وعدة الأمير بمنطقة تلمسان بغرب الجزائرTlemcen en Algérie occidentale.

الوعدّة الشعبية كظاهرة اجتماعية لها بنيتها الخاصة في تفعيل حراكها، وهي في مجملها عبارة عن جملة قيم متوارثة valeurs héritéesعن الأجداد لا يمكن أبدا المساس بها، تحمل عدت دلالات اجتماعية وفنية وتاريخية وفلسفية.

إذ تظهر الدلالات الاجتماعية للوعدة، في دورها على تقوية الروابط الاجتماعية بين مكونات المجتمع الواحد بإظهار كل رموز التآلف والتعاون بين الناس، عندما استطاعت أن تفرض على المشاركين صناعة تفاصيل أحداثها. فهي تحظى بالإيمان الجماعي للمنخرطين فيها، وهي خاصية تفتقر لها باقي الظواهر الاجتماعية إذا ما استثنينا ظاهرة القانونphénomène du droit. فالوعدّة تملك قدرة هائلة على إعادة الإنسان إلى الطبيعة وتذكيره بأصوله الأنطولوجية الأولى التي فقدها بفعل هيمنة المدنية بجميع مكوناتها التاريخية عليه، أي أن الوعدّة لا زالت تحافظ على مكتسبات الفطرة البشريةl'instinct humain التي جلب عليها في البدء، وبجملة طقوسها لتأكيد قاطع على أوهام الثقافة culture illusions والمدنية التي على ضوئهما تخلى الإنسان عن الكثير من مكونات إنسانيته. ومن هنا جاءت الوعدّة لتطرح الثوابت والأصول في مقابل المتغيرات والفروع. ومن أبرز لحظات الوعدّة الاجتماعية هي عندما أجبرت المشاركين فيها على ضرورة التخلي عن مكتسباتهم المادية والاشتراك معا بعيدا عنها في السهوب والمروج، التي عنها يظهرون جميعهم متساوون دون أن يتميز أحدهم عن الأخر في بنية ظرفية واحدة التي تعتبر أحد الصفات التي كانت عليها البشرية قبل ظهور المدنية، صفات تفضح مقولة حرب الإنسان على الطبيعة وادعاءه السيطرة عليها التي رفعها العصر الحديث.

أما الدلالات الفنية التي تحملها الوعدة فهي متنوعة وعديدة الأنماط، و بالتالي يمكن اعتبار الوعدة ظاهرة فنية بامتياز بما أنها في الأساس تقوم على فنون مختلفة، مما سمحت للكثيرين بإظهار إمكانياتهم الفنية وتطويرها، والذي يدل على أن أناسها فنانون- الإنسان الفنانartiste

 

humain- كل واحد فيهم يعمل جاهدا على إظهار براعته الفنية وإمتاع الآخرين وبث النشوة في قلوبهم، الأمر الذي يجعل من الفنان كائن خير ومحب، فبرقصه يشارك الموجودات انحناءاتها والتواءاتها وحركاتها المنظمة، وبألحانه وغنائه يسمع الآخرين أحاسيسه وعواطفه ورقة فؤاده، الشيء الذي يجعل من الصور الفنية تطغى على مظاهرها التي تزيدها متعة و شاط، بوجودها  يصعب على المرء تركها  أو نسيانها.

وإذا ما أردنا معرفة الأهمية التاريخية للوعدّة الشعبية، سنجد أن جانبا كبيرا من مروياتها الشفوية ذات أبعاد تاريخية التي جعلت منها ذاكرة تاريخية La mémoire historiqueكبيرة باعتمادها على الخطابات الشفوية discours orauxالمتوارثة عبر الأجيال، المكونة من السجالات والبطولات التي شهدها تاريخ مجتمعاتهم، تروى داخل حلاقات بشرية بأسلوب قصصي أكثر آنسة، وتظهر مزيّتها في تجميعها للحظات الزمن في لحظة واحدة المعاشة، التي تساعد على إعادة اللحمة بين الأجيال.

وأما المغزى الفلسفي الخاص بها فهو فيها ثابت وقوي، يمكن استخلاصه من ظاهرة الوعدّة الشعبية، والذي يظهر في البعد الكوني لها وللأبعادها الإيتيقية  والقيمية التي تحملها، فهي غالبا ما تدعو إلى ضرورة التمسك بقيم السلام Les valeurs de la paixوالمحبة والتعاون والاحترام و التوعية، والدعوة على أهمية تبادل الخبرات والمنافع بين الناس، وتبيان مدى عظمة الإنسان في لحظات السلام، وفي قدرته على تخليه عن فترات الحروب والصراعات وعصور الأحقاد والفتن وانسجامه الكامل مع الطبيعة، وإعادة خلق جسور بديلة بينه وبين أمه الطبيعة.

ويمكن اعتبار تجمع الناس وراء مقصد الوعدّة destination Aluadhaمكسب كبير للروح الإنسانيةl'esprit humain، وهم يتبادلون الزيارات والأطعمة والخبرات من أجل بناء الصالح العام في جو مرح قل ما يتكرر طول السنة، وهي محاولات كلها تعيد الاعتبار للإنسان، وأن ما افترقوا حوله ليس هو إلا الوهم. ومن أبرز مظاهرها نجد أولا ظاهرة الفروسيةphénomène équestre.

تعد ظاهرة الفروسية phénomène équestreالحلقة الأبرز التي يفضلها أهل الوعدّة، نظرا لتفردها ببعض الخصائص عن مثيلاتها، كونها الأكثر ارتباطا بالهوية identitéوالتراث، ولجمالية صورها وقوة دلالاتها الرمزية، بما أنها ظلت منذ القدم مرجعا للتنافس والقوة و إبراز معالم الرجولة virilitéوالوسامة عن الغير، الأمر الذي يجعل من الفرسان chevaliersأكثر استعدادا للعب أدوارهم لإمتاع الحاضرين. فهي تعد سر الفرجة والمرح في الوعدّة، خاصة عندما يصطف الفرسان على خيولهم في صف واحد وهم يرتدون زيّ مزركش موحد وعمائم ذات ألوان باهيه وكأنهم شخص واحد يحاول أن ينافس نفسه ويلعب مع ذاته، ينتعلون أحذية جلدية طويلة تلامس الركبة وسراويل منتفخة تساعدهم على إمتطاد الخيولchevaux  والبقاء فوقها أطول مدة من الزمن، ويلبسون خيولهم ذات القوام الصلبة، أسرجة تحمل رسومات غامضةgraphiques mystérieux مصنوعة من أفضل الجلود وأغلبها تخاط بخيوط ذهبية، وألجمتها مصنوعة من قطع منقوشة ومطرزة تحكم أوصالها براغي فضية. أما الخيول فتحظى بالعناية الشديدة سواء تعلق الأمر بطريقة قص شعر ذيلها ورقبتها أو بتزيين حوافرها وتصفيف أشفار عيونها.

إنه مشهد مذهل يعكس مدى قوة علاقة الإنسان بالحيوان وصدقها، وعن سر هذا الاهتمام البالغ من قبل الفارس اتجاه فرسه، يعود إلى أصول تاريخية مسكونة في وجدان التراث حيث لا يزال يملأ الذاكرة الجماعيةLa mémoire collective. يمتطون خيولهم وهم يحملون في أيديهم بنادق خشبية des fusils en boisطويلة محشوة بالبارود، يتأهبون للحظة الانطلاق، وبعض الخيول لا تتحمل انتظار هذه اللحظة فتشرع في الرقص بأرجلها محطمة بذلك السكون الذي يسبق نفس الانطلاق. و لكن سرعان ما ينطلقون كوميض برق في ليلة عاصفة، يتحركون من دون همس كظلال تلوح فوق الماء، وهم يصوبون بنادقهم نحو أفق السماء وكأنهم يريدون اصطياد شيء مخبأ في أعماق الكونprofondeurs de l'univers، وبعد صياح قائدهم كعلامة على إطلاق النار، فينبعث على أعقاب هذه العلامة البارود ممتزجا بصوت حوافر الخيول، ثم تلوى البنادق نحو الأسفل في حركة فنية سريعة، مخلفين وراءهم غيمة غبار تذهب أبصار الحاضرين، ليعود لهم بعد انقشاعه تحت دهشة لا توصف.

والفارس يقر أن لا شيء يحظى باهتمامه ورعايته في حياته الاجتماعية أكثر من الفرس، حقوقه وحقوق فرسه متساوية مما يصعب تخيل الفصل بينهما، وعليه تأتي الفروسية كنموذج حي على انصهار العالمين – العالم الإنساني والعالم الحيوانيLe monde humain et le monde animal- في عالم واحد من دون تفاوت، وهي إشارة على إتحاد ثلاث قوى هي: قوة الطبيعة التي يمثلها الفرس الذي يرمز للخفة والسرعة وجمال الطبيعة المرسومة على جلده و على ملامحه، ثم قوة العقل التي تتمثل في الفارس الذي يعتمد على ملكته العقلية وذكائه في تحكمه وقيادته للفرس، وهي بذلك قادرة على إخضاع قوة الفرس لمبادئ العقل الذاتية، والقوة الثالثة والأخيرة هي قوة الآلة puissance de la machineالتي تظهر في البندقية، وقصديتها تظهر كإضافة يضيفها الإنسان على الطبيعة بما أنها شيء أبدعه الإنسان، شيء يطرح داخل هذه المعادلة كعالم ثالث هندسه الإنسان في مقابل عالم الطبيعة، وهو يتخذ فيها موقع الوسط بينهما محققا شرط النظام والانسجام بينهما.

داخل هذه الفسيفساء المتنوعة يمكن اعتبار الفروسية، بمثابة عمل فني مشترك بين الإنسان والطبيعة، يستحيل قيامه بغياب أحدهما، مما يؤكد على امتداد وتد الحياة داخل هذين العالمين الشاسعين.

أما المظهر الثاني من مظاهر الوعدّة الشعبية، هو ظاهرة الغناءphénomène chant. ففيها يكثر الغناء بأساليب شتى، يؤديه ما يعرف بالمداحencomiums، وهو شخص محوري بين أشخاص الوعدّة، يتميز بعدة مؤهلات، أهمها طبيعة شخصيته الكاريزماتية وقوة صوته الذي يتميز بالرنة المدوية، لا يعلو عليه صوت من أصوات الحضور، يملك نظرات صقر حادة تساعده على بث الهدوء والنظام بين المتلقين، وجهه بهي الطلعة يحمل الأمل للجميع، يزينه شعر متماسك فوق شاربه العلوي كسنابل القمح المنبسطة فوق هضبة صغيرة، يرتدي لباس خاص يعكس حكمته وبصيرته ووقاره، تتوجه عمامة صفراء فوق رأسه تتحدى كل حركاته على السقوط نظرا لدقة التوائها، ويتميز أيضا بحركاته السريعة والخفيفة لا يستقر في مكان معين، فهو يملأ فضاء الحلقة بإشاراته وهمساته المعبرة، يملك قدرة خارقة على جلب انتباه الحضور إلى درجة أنه ينسيهم عالمهم الأصلي المليء بالهموم والمشاكل، ويدخلهم إلى عالمه الخاص وهو عالم الغناءmonde du chant المشجون بالحب والوفاء وهم يتمنون الخلود فيه، بغناء يرفع عنهم غبن الحياة وجبروتها ويعوضهم الحنان والعاطفة وهم مغشيون داخل صوته وكلماته، متحملين لحيف الشمس واختناق الغبار، فهم أشبه بأجداث نخل يابسة بلا روح تحيط به من كل جهة و أنا كنت أحداها. والغريب في الأمر أنه يلقي عليهم قصائد مليئة بالعبر والمواعظhomélies، بعضها تسر الحضور وتبث البسمة على وجوههم والبعض الآخر يغرس فيهم الندم والحسرة لما يحدث وما فعلوه في حياتهم. فهو شخص يعذبهم بكلماته ثم يسعدهم، وعليه لم أرى في حياتي شخصا يتحكم في رقاب الناس أكثر منه  في جو من الحرية. سمعت أنه غنى عن اليتم orphelinat ثم عن السلام ثم عن الخيانة trahison وعن الحب amour والفضيلة vertu والعصيانdésobéissance والجحودingratitude ثم ختمها عن الكرمgénérosité. وبين كل وصلة غنائية وأخرى يعزف على النايflûte ( القصبة) والضرب على الدفtambourin مجففا بهما السكون، أصواتهما تزيد من استقرار أرواح الحضور على بعضها البعض. فالمواضيع التي غنى عليها كلها استهلكت واستوعبها الحضور، وعليه تساءلت في نفسي عن سر قدرته على تقديم مواضعه للناس بهذه المهارة والدقة، في الوقت الذي لا أستطيع أن أقوم به في محاضراتي داخل الجامعة بما قام به هو داخل أهازيج الوعدّة، وعليه اعتبرته إنسان متميز وحكيمHomme unique et sage، وأن هناك عالما آخر لا تحكمه القوانين يزخر بالحكم والمواعظ  والمعارف في الهواء الطلق، وعليه تأكدت أن المعرفةconnaissance لا تلقن فقط داخل الأسيجة، سواء كانت مادية أو ذهنية.

أما المظهر الثالث وهو مظهر الرقصdanse، الذي يعتبر الظاهرة الأكثر شيوعا بين أحداث الوعدّة مستهويا الكثير من الناس، ينشطه مجموعة من الشبان خفيفين الروح، ويملكون قدرة فائقة على التحكم في أجسادهم واللعب بها كما يشاؤون وللغرض الذي يفضلون، يسحرون بها أعين الناس.

يؤدون رقصات متنوعة الطبوع، وكل طبع إلا وله إيقاعه الخاص به، وأفضل هذه الإيقاعات هو إيقاع العلاوي. العلاويAllaoui يقوم على حركات سريعة وخفيفة في مظهر منتظم ومتوازن، أصحابه يتفننون في هزّ أكتافهم وأرجلهم في حركات نحو الأعلى، وكأنهم يريدون التحرر من ما هو دنيوي، يتحكمون في بعضهم البعض بنظراتهم التي يتبادلونها فيما بينهم، والجميل في حركاتهم وأنها تتخذ أشكال ألسنة اللهيبflamme التي لا تستقر أبدا على شكل معين، وهي إشارة على الديمومة permanenceوالتغير الأبدي على الطريقة الهيراقليطية، إنهم يعلنون برقصاتهم عدم استسلامهم مهما كانت الظروف، ويتطلعون بها إلى حرية الروح في الوجود، وأن الجسدcorps أبدا لا يمكن له أن يكون سجن الروحprison des esprits في هذا العالم كما ساقته نظريات اللاهوتLes théories de la théologie ولا زالت كذلك، وأن العالم سينهار بانتصار الجسد على الروحTriomphe du corps à l'âme، هم يرقصون وسط جموع الناس لتكذيب هذه القصص، ويفضحون به جشع الحكماء المزيفين. الرقص هو تحدي للأنماط السائدة في المجتمع الراكد، يعتمد على لغة الحركة بدل من لغة الصوت الشائعة، بما أنه يؤمن بأن لغة الحركة أقوى بكثير من لغة الصوت. لغة الحركة هي لغة الوجود أما الصوت يبقى حكرا على البشر، وبالتالي الراقص يريد أن يعم بجمهوره إلى الوجود كله لا الوجود الإنساني فحسب، مما يدل أنه يرى الحقيقة فيما هو أرفع منا والتي يراها في الوجود ذاته.

الراقص إنسان غير أناني وهو يتفنن في إمتاع الناس، وبهذه الصفات يمكن أن نعتبره بمثابة المخلصSauveur، الذي يعبر هموم البشريةpréoccupations de l'homme بحركاته الجميلة والساحرة، بحركاته يحاول أن يتخلص من ضيق المكان ليسكن الوجود كله. فهو كائن شمولي يبحث عن الشساعة برقصه لا أن يسكن في مكان محدد.

وبخصوص المظهر الأخير و هو مظهر اللعبjouer. الوعدّة تكثر بها ألعاب كثيرة أهمها لعبة التبارز بالعصي والعدو، فالتبارز بالعصي هو لعبة قديمة مرتبطة بالفروسية، عندما  يتحامل فيها شخصان على التبارز بعصي مصنوعة بإتقان، تلمع تحت أشعة الشمس كالسيوف، وهما يظهران مهارة تحكمهما فيها، وكل واحد فيهما يحاول أن يصل الأخر بعصاه، بحرارة تنافسهما كأنهما يستعدان لحرب على وشك الاندلاع، عن طريق اللعب بالعصي يتدربون على غبن الحرب وتكتيكاتها الخاصة، وإذا تمكن أحدهما من أن يطيح بالخصم، يهّب إليه لاحتضانه في مظهر أخوي يعكس مدى ارتباط هذه اللعبة بلغة السلام والمحبة، وهذه الإشارة على عدم انفصال الحرب guerreعن السلمguerre.

أما العدو، فهو الطريقة المثلى لإظهار القوة والسرعة وتباهي بعضلات الجسد وصلابته أمام الملأ، وأن مهما طالت المسافات لا تثنينا عن استهلاكها وإفناءها. العداءون يتنافسون على مسك نقطة النهاية بالجري والتحدي.

إن الملاحظ في أحداث الوعدّة الشعبية في مجتمعنا، هو أنها شبيهة إلى حد كبير بأحداث الأعياد الدينية Les fêtes religieusesوالاحتفالات الشعبيةfêtes populaires في بلاد اليونان ما قبل الميلاد التي كانت تجرى في السهول والتلال، مما يؤكد أن الوعدّة كمظهر للثقافة الاجتماعية في شمال إفريقيا L'aspect social de la cultureهي امتداد للثقافة المتوسطيةculture méditerranéenne، نظرا لحملها للكثير من سماتها الرئيسة.

 هوامش:



* دكتور بخضرة مونيس ص ب 317 الرمشي 13500 تلمسان الجزائر



[1] فريدريك نيتشه.الفلسفة في العصر المأسوي اٌغريقي، ترجمة سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2 1982، بيروت لبنان ص46.

 

[2] مونيس بخضرة: تأملات فلسفية في رسم بعض إشكالات العصر، دار عالم الكتاب الحديث، ط1، الأردن 2012 ص 07.

 

[3]  هيجل: تاريخ الفلسفة، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي ط3 1976 القاهرة ص188.

 

[4] فريدريك نيتشه.الفلسفة في العصر المأسوي اٌغريقي،  ص17.

[5]  مونيس بخضرة، تاريخ الوعي" مقاربات فلسفية حول جدلية إرتقاء الوعي بالواقع، دار العربية للعلوم-ناشرون، 2009، ص12.

[6] للإطلاع أكثر عن طبيعة هذه التساؤلات التي تتناول إشكاليات راهن التفكير الفلسفي في المجتمعات العربية المعاصرة، أنظر مقدمة كتابنا: تاريخ الوعي، مقاربات فلسفية من أجل إرتقاء الوعي بالواقع، الدار العربية للعلوم الناشرون، ط1 2009 بيروت لبنان ص9.

[7] كريم متى. الفلسفة الحديثة" عرض نقدي"، دار الكتاب الجديد، ط2 2001، بيروت لبنان ص 201.

[8] أنظر دافيد هيوم: مبحث في الفاهمة البشرية، ترجمة موسى وهبة، دار الفارابي ط1 2008

 

[9] هيجل. محاضرات في فلسفة التاريخ، العقل في التاريخ، الجزء الأول، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير    للطباعة و النشر والتوزيع، القاهرة، 1986 ص 12.

[10] إدموند هوسرل. فكرة الفينومينولوجيا، ترجمة فتحي إنقزو، مركز دراسات الوحدة العربية ط1 بيروت 2007ص16.

 

 [11] تمّ بناء هذا التحليل الخاص بتفكيك ظاهرة الوعدة الشعبية، التي تعتبر أبرز الظواهر الإجتماعية التي تتميز بها الثقافة الجزائرية منذ عهود تاريخية طويلة، بناءا على حضوري شخصيا لفعاليات وعدة الأمير في منتصف شهر أكتوبر 2012- نسبة للأمير عبد القادر الجزائري، و هو شخصية بارزة من تاريخ الجزائر المعاصر- التي تقع في الحدود الفاصلة بين ولاية عين تموشنت و ولاية تلمسان في أقصى الغرب الجزائري، خلالها تمت بلورة أفكار هذا البحث بفعل المشاركة.

 

rs...

Supprimer les publicités sur ce site pendant 1 an

Design : OnlineCreation.me - Crédit photo : Lic. CC SA-By magn3tik via FlickR - Tous droits réservés